شكرا جزيلا ا.د. سلوى رشدي - رئيس شعبة الخزف بالنقابة
سعيد حامد الصدر.. الرائد الاول لفن الخزف المصرى الحديث
"ساحر الاوانى "
شاءت ظروفى التعليمية منذ اول عهدى بالدراسة الفنية أن أدرس أشياء و أهوى أشياء، ولذا مارست الاثاث و حفر الخشب و الزخرفة و التطعيم و اشغال المعادن و التصوير اليدوى و الفوتوغرافى و الخزف و النحت و ماتشعب عن ذلك من عمليات .
و عندما درست الخزف تبين حقيقة مطالبه و التزاماته و ايقنت أنه خرج عن نطاق الهواية و عرفت أنه عمل جدى لا يحتمل مزاحمته بمسائل فنية أخرى اذا أنه يطالبنى بكل وقتى و بكل ما وهبنى الله من عقل و جهد، فأنا عندما أعمل فيه لا استطيع تجاهل انتاج قرون طويلة مضت و التى تتمثل فى صور عديدة لا حصر لها، و ارى البشرية القديمة كلها متمثلة فى اناء أهدف أنا الى اخراجه.
فهذه الكتلة التى ستشغل جزءا من الفضاء و تروى قصته و هى صامتة الا اننى أحس انها بعد أن شغلت مكانها أصبحت كالبشر تعيش و تتنفس و أحس أنها مكملة لحياتها، و تدفعنى تلك الاحاسيس الى العناية بشكلها و قوامها و رقتها و انسجام النسبة قبل كل شئ فلا اخرجها بدينة و لا ضعيفة القوام و لا كالقزم، بل اخرجها كاملة متزنة ثم اتخير لها ما يلائمها من كسوة و ذلك بطلائها بالطلاء الزجاجى المناسب .
تلك هى كلمات الفنان نفسه المعبرة عن رحلة ابداعه والتى تلخص حواره مع فن الخزف كلمات بسيطة داخلها عبقرية فنان تفصح عن منهجه و رؤيته فى الحياة و عشقه الصافى للخزف و معاناته و صبره ولحظات الفرح فى ميلاد اوانيه
ولا تكفى كلمات تعطيه حقه اكثر مما قاله الفنان المصور حسن فؤاد حينما ايقن ان الكلمات الصادقة التى تكشف رحلة عطاء هذا الرائد لا تكون واقعية الا بوجودك مع الفنان داخل محرابه، لقد شاهدته عن كثب كيف يتحول عشق الانسان للفن الى لون من الصوفية و الزهد ، وكيف يسيغ الاداء الصبور على صاحبه متعة الرضى و سعادة المقدرة على التعبير ... ومضيت أشهد ولادة هذه الاوانى و هى تخزف من الطين والنار والالوان، بحسابات بعضها يخضع للعلم والتجربة و بعضها الاخر يخضع للاكتشاف والمفاجأة .
و بضربات سريعة النبض، تنبعث فى الاوانى وحدات الفن الاسلامى فى عشق الطبيعة .. الطيور والحيوانات والاشجار والاسماك، يعالجها سعيد الصدر بفرشاة جمعت بين خبرة أعظم اساتذة الخزف فى انجلترا، و عفوية صبيان الفاخورة عند اطلال الفسطاط .
و من تقنية البريق المعدنى الاسلامى هذا الينبوع الغزير استلهم سعيد الصدر تجاربه الاولى ليبعث الحياة مرة أخرى فى هذا التراث، بعد أن أعطاه عذوبة النغم، و رقة الوتر وعفوية العزف، وخلصة من بدائية الصنعة و غلظة الاشكال .. ووضع خلاصة تجربته هذه فى مئات الأوانى البديعة سجل فيها هذه الاكتشافات فى كتب و دراسات وضعت بين أيدى تلاميذه و مريديه، ليقدم لنا فى النهاية فنه و ارداته الهائلة فى صنع النجاح، و فى التغلب على ما في الحياة من المأساة .
و لا اجد كلمات تعطى حقه مثل ما ذكره الفنان الخزاف صالح رضا فى كلمته عن سعيد الصدر رثاء ليس مابعده رثاء فى الاعتراف بما قدمه لجيله والاجيال القادمة، ولما لا فهو الاستاذ الفنان الخزاف ... سعيد حامد الصدر ... ابن مصر البار، ابن مصر العظيم الذى حمل مسئولية الفن طوال نصف قرن من الزمان .. صاحب صولجان المعرفة البعيدة القادمة من جذور الشرق العظيم الذى صنع لنا كل هذه الفنون والمعارف، فهو المعلم الحقيقى الذى اعطنا الحرية و الدفع الى وجود الانسان بكامل حريته، لانك زرعت فى جيلنا الصدق والاخلاص والحب والتفانى فى أعملنا .
هو صاحب الفضل فى فن الخزف بما تركه من أثر فعال فى الحركة التشكيلية الخزفية، والتى كان لها الأثر الفعال فى نمو أجيال من تلاميذه يحملون عبء هذا التطور .
و اختم بما قاله الناقد مختار العطار ان ما اسهم به سعيد الصدر فى فن الخزف ليس احياء محليا، بل اضافة عالمية انسانية و ادراكه لهذه الحقيقة حفظ عليه حماسه و استمراره عشرات السنين، فهو يشعر دائما أنه صاحب رسالة للقرن العشرين عليه أن ينجزها وعاش بعبقريته حياة مفعمة بالتحصيل والتفكير والابداع حتى أصبح بحق واحد من رواد الجيل الأول للحركة الفنية التشكيلية الحديثة ... يقف كتفا بكتف مع صاحب نصب نهضة مصر المثال محمود مختار، من حيث ان كلا منهما قد احيا فنا عظيما بعد غياب طويل .
وبالرغم من كلمات الفنان الرائد سعيد الصدر التى كان يرددها فى لحظات القنوط " اننى لم احقق بعد .. ما جئت من أجله" ... " لقد اضعت حياتى سدى" ... ولكنه كان مؤمنا فى أعماق ذاته ان جهوده لن تذهب هباء ، و هو ما كشفت عنه الايام بعد رحيله ولا يزال هو صاحب الضربة الاولى فى اعادة بناء حركة الخزف الحديث بمصر .
تحية تقدير واجلال الى روحك العطرة بقدر ما قدمت واعطيت .
|